مقالات

الشجاعة

د. صالح العطوان الحيالي
الشجاعة من أروع وأنبل الصفات التي تحلّى بها العرب، فهي قوة في النفس وثقة بالله، وهي القدرة على مواجهة الصعاب والمخاطر والظلم والقهر، والتغلّب على مصاعب الحياة بإيمان وصبر وتحمّل وعدم الضعف والاستسلام، وهنا أجمل الحكم عن الشجاعة والقدرة على الصمود
الشجاعة هي المواقف البطولية التي يخوضها الإنسان في حياته سواء أكانت مواقفاً تتعلق به أو بالناس وهي أهمّ مقومات النجاح، فحتى تنجح بحياتك يجب أن تكون شجاعاً وتتحدّى الخوف لأنّه عدوّ النجاح
الشجاعة خُلُق كريم ووصْف نبيل، يَحمل النفس على التحلِّي بالفضائل، ويَحرسها من الاتِّصاف بالرذائل، وهي ينبوع الأخلاق الكريمة والخِصال الحميدة، وهي من أعزِّ أخلاق الإسلام، وأَفخر أخلاق العرب، وهي الإقدام على المكاره، وثَبات الجأش على المخاوف، والاستهانة بالموت، إنَّها سرُّ بقاء البشر واستمرار الحياة السليمة والعيشة الرضية على الأرض، لأنَّها تَجعل الإنسان يُدافِع عن حياته، فالشجاعة غريزة يَضعها الله فيمَن شاء من عباده؛ يقول عمر بن الخطاب: “إنَّ الشجاعة والجُبن غرائزٌ في الرجال”؛ سنن الدار قطني، رقم (3807).
والعرب يقولون: “إن الشجاعة وقاية، والجُبن مَقتلةٌ”، قال أحد الحكماء: “اعلَم أن كل كريهة تُرفَع أو مَكْرُمة تُكتَسب، لا تتحقَّق إلا بالشجاعة، ورؤوس الأخلاق الحسنة، أوَّلها الصبر؛ فإنَّه يَحمِل على الاحتمال وكظْم الغيظ وكفِّ الأذى، ثم العِفَّة، وهي تَجنُّب الرذائل والقبائح، ثم الشجاعة، وهي صفةٌ تَحمِل على عزَّة النفس وإيثار معالي الأخلاق، ثم العدل، فإنَّه يَحمِل على الاعتدال والتوسُّط، وقال بعضهم: “الشجاعة صبر ساعة”، وقال المناوي في “التوقيف على مهمات التعاريف”: “الشجاعة: الإقدام الاختياري على مخاوف نافعة في غير مُبالاة”، وقال غيره: “الشجاعة هي الصبر والثبات والإقدام على الأمور النافعة تحصيلاً، وعلى الأمور السيئة دفْعًا، وقيل: هي جُرأة القلب وقوَّة النفس عند مواجهة الأمور الصعبة، وقال أرسطو: “الشجاعة أُوْلى سماتِ البشر، فهي التي تَجعلُ بقيَّة السمات مُمكنة”.
والحقيقة أن الشجاعة هي القائدة إلى الأمام، والمُوبَوِّءة منصبَ الهمام، والقاضية على الذلِّ والهوان، وهي سرُّ بقاء البشر واستمرار الحياة وعمران الأرض، وهي من صفات الكمال والجمال، وبها اتَّصف الأنبياء والمرسلون، وامتاز بها سيِّدهم وإمامهم محمد – صلى الله عليه وسلّم – يقول أنس – رضي الله عنه -: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجعَ الناس، قال: “وقد فزِع أهل المدينة ليلة سَمِعوا صوتًا، قال: فتلقَّاهم النبي – صلى الله عليه وسلم – على فرسٍ لأبي طلحة عُرْي، وهو متقلِّد سيفَه، فقال: ((لَمْ تُراعُوا، لَم تُراعوا))، ثمَّ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: ((وجدتُه بحرًا))؛ يعني: الفرس؛ صحيح البخاري، رقْم (3040)، وصحيح مسلم، رقم (2307).
وعن البراء – رضي الله عنه – قال: “وكان إذا احمرَّ البأس، يُتَّقى به – يعني: النبي – صلى الله عليه وسلم – وإنَّه الشجاع الذي يُحاذَى به”؛ الجهاد؛ لابن أبي عاصم، رقم (250)، ويقول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وهو من أبطال الأمة وشُجعانها: “لقد رأيتُنا يوم بدر ونحن نلُوذ برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو أقربُنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يَومئذ بأسًا”؛ مسند أحمد، رقم (654).
وقد حثَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أمَّته على الشجاعة، وجعَلها مَجلبة لحب الله ورضاه؛ يقول – صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة يُحبُّهم الله – عز وجلَّ – وذَكَر منهم: ورجل كان في سريَّة، فَلقوا العدوَّ، فهُزِموا، فأقبَل بصدره؛ حتى يُقتلَ، أو يَفتحَ الله له))؛ النسائي، رقم (2570)؛ مسند أحمد، رقم (21355).
والشجاعة عزٌّ والجبْن ذلٌّ، وكفى بالعزِّ مطلوبًا ومقصودًا، وبالذلِّ مصروفًا عنه ومرغوبًا، والشجاع مُحبَّب إلى جميع الناس حتَّى إلى أعدائه، والجبان مُبغض حتى إلى أعمامه، وقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه أبو داود بسنده عن أبي هريرة، يقول: سمِعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((شرُّ ما في الرجل: شُحٌّ هالع، وجبن طالع))، وكانت الشجاعة مفخرة العرب في الجاهلية أيضًا، يتفاخَرون بها، ويتمادحون.
يَقول السموْءَل:
وَمَا مَاتَ مِنَّا سَيِّدٌ حَتْفَ أَنْفِهِ ….. وَلا طُلَّ مِنَّا حَيْثُ كَانَ قَتِيلُ
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنا ….. ولَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
وقال آخر:
وإنَّا لَتَسْتَحْلِي المَنَايا نُفُوسُنا …. وَنَتْرُكُ أُخْرَى مُرَّةً لا نَذُوقُهَا
وبها عاشت الأمة الإسلامية في القرون الأولى أحداثًا قادة، وشبابًا سادة، وكهولاً ذادة، وحازوا الشرف الشامخ والعزَّ الباذخ، فكان عزْمهم غيرَ مخلخَل، وشرَفهم غير مُزلزَل، وبها فتَحوا البلاد، وحكَموا العباد، وقَضوا على الظلم والعدوان، وتمكَّنوا من الحُكم والسلطان، وليُعلم أن القوة هي الوسيلة النافعة الناجِعة في تحقيق غريزة الشجاعة؛ لذا أمَر الله – سبحانه وتعالى – بإعداد القوة لصرْف الأعداء عن مُخطَّطاتهم العَدائية:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾[الأنفال: 6]، ويقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير))؛ صحيح مسلم، رقم (2664)، وابن ماجه، رقم (4168).
وبالشجاعة يتحقَّق للمرء ما لا يتحقَّق بدونها، وبها يستطيع أنْ يُضحِّي بماله ونفْسه وهذه أعلى مراتب الشجاعة؛ كما قال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد – رضي الله عنهما -: “احرِص على الموتِ، تُوهب لك الحياة”.
والشجاعة عبارة عن قوَّة القلب، وجُرأة النفس، وثَبات الجأش، بغضِّ النظر عن ظاهر الإنسان حجْمًا وشكلاً، وقد بيَّن هذا المعنى الشاعر العربي بقوله:
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيْفَ فَتَزْدَرِيْهِ …. وَفِي أَثْوَابِهِ أَسَدٌ مَزِيرُ
وَيُعجِبُكَ الطَّرِيرُ فَتَبْتَلِيهِ …… فَيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجُلُ الطَّرِيرُ
لَقَدعَظُمَ البَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ ….. فَلَم يَسْتَغْنِ بِالعِظَمِ البَعِيرُ
وكان الصحابة – رضي الله عنهم – قد نَالوا الحظ الأوفَر والنصيب الأكبر من هذا الخُلُق العظيم الذي كان عليه الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – في القمة، فهذا علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قيل له: “كيف تصرع الأبطال؟ قال: “إذا لقيتُ أحدًا كنتُ أَقدِر أنِّي أقتله، ويُقدِّر هو أنِّي قاتِله، فأجتمِع أنا ونفسه عليه، فنَهزمه، وقيل له – رضي الله عنه -: “إذا جالَت الخيل، فأين نَطلبك؟ قال: حيث تَركتُموني”، وكان يقول: “والذي نفس أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف، أهون عليَّ من مَوتة على فراش.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى