مقالات
ضخامة الإيمان بالعقيدة والحق الذي كانت به الأمة الإسلامية كانت الفتوحات الاسلامية
د.صالح العطوان الحيالي
إن الفتوحات الإسلامية، وذلك الانسياح الواسع في الأرض، الذي لا مثيل له من قبل ولا من بعد؛ لم يكن مصدره التفوق في العدد أو العدة، أو الخبرة العسكرية، فقد كان ذلك كله(اي العدد والعدة ) من نصيب الأعداء. إنما كان مصدرُه ضخامة الحق الذي آمنتْ به تلك الأمة والتقت عليه، وضخامة المنطلق الذي تنطلق منه، فتحطم كل ما تجد في طريقها من صور الباطل وأشكاله، فقد استطاعت تلك المجموعة المؤمنة أن تسحقَ الجاهلية سَحقًا، وتمحوها من الوجود في قطاع واسع من الأرض، لا في صورة دول وحكومات وجيوش زالت من الوجود فحسب، بل في صورة عقائد كذلك، وأنظمة وتقاليد.
ولم يقتصرْ عملها على إزالة تلك الدول والحكومات والجيوش بما تحمله من عقائد وأنظمة وتقاليد، فهذا عملٌ قد تقدر عليه القوى البشرية العادية – بشرط وجود التفوق العسكري – كما أتيح “لهاينبال”، و”جنكيز خان”، و”نابليون”، و”هتلر” لفترات من الزمان.
إنما الذي تفرَّدت به أمة العقيدة أنها نشرت في ربوع الأرض عقيدةَ الحق بغير إكراه، ونشرت كذلك لغةَ هذه العقيدة بغير إجبار، لقد أزال المسلمون دولةَ فارس كلَّها، على كل ما كان لها من الهيلمان والقوة، وأزالوا قطاعًا كبيرًا من دولة الروم، أعظمِ دول ذلك التاريخ، ولكنهم لم يُكرِهوا أحدًا على اعتناقِ الإسلام، تنفيذًا لأمر الله، الذي يأمر بإزالة الطواغيت من الأرض، ولكنه يأمر كذلك بعدم إكراه الناس على العقيدة الصحيحة بعد إزالة القوى التي تصد الناس عن الحق، ممثلة في نظم وحكومات وجيوش: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39] ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256].
إن المسلمين في فتوحاتهم وجهادهم لم يكونوا خَدَمة جنس، ورسل شعب أو وطن، يَسْعَون برفاهيته ومصلحته وحدَه، ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان، كأن لم يخلقوا إلا ليكونوا حكامًا، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم، ولم يخرجوا لينقُلوا إمبراطورية حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم، لا.. لا.
إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعًا إلى عبادة الله وحده، كما قال “رِبْعِي بن عامر” – رسولُ المسلمين في مجلس يزدجرد -: “إن الله ابتعثنا لنخرجَ الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة، ومِن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام”.
فالأمم عندهم سواء، والناس عندهم سواء، الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي إلا بالتقوى، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، ولم يبخلِ المسلمون بما عندهم من دينٍ وعلم وتهذيبٍ على أحد، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسبًا ولونًا ووطنًا، بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمَّت العباد، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها.
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب المضطهدة أن تنال حريتها، وتأخذ نصيبَها من الدين والعلم والتهذيب و الحكومة…”
وفي خارج الجزيرة العربية لم يَعْقدِ الإسلام صلحًا مع الحكَّام الساسانيين والروم؛ لأن الأوَّلين فرُّوا عن أراضيهم، والآخرين كانوا غرباء، وما جاء الإسلام إلا ليخلصَ الأرض من مستغلِّيها ومستعمريها، فلم يَرَ أن يمدَّ يدَه بالصلح إلى هؤلاء، فلا شأن لهم، وإنما الشأن لأهل البلاد الأصلاء؛ ولذا فقد عقد الإسلام صلحًا مع أهل مدنٍ فتحت في الشام، ومع القبط أنفسهم في مصر وعليهم المقوقس القبطي، ولم يعقد قط صلحًا مع الرومان في شأن تلك البلاد، وكان هذا سببًا آخر في إقبال أهل البلاد الأصلاء على الإسلام، واستقراره في بلادهم.
وأهم ما كان يعقب المعركة الحربية الإسلامية المنصورة أو المهزومة؛ إنما هو صلات المسلمين بمَن حاربوهم، أو وقفوا منهم ومن عدوِّهم على حياد، أما هؤلاء فقد حرِّم على المسلمين أن يصيبوهم بأذى، ومخافة أن يصيب أهل ذمة أو صلحٍ أذًى، لو كانت منازلهم في طريق الزحف، أمر “عمر” قوَّاده ألا يأذنوا بدخول ديار هؤلاء إلا لمَن وثقوا في أمانته ودينه، وذلك لئلاَّ يهيجوا عليهم القلوب، ويكدروا النفوس.
وأما أولئك، فإن كان الله قد أظفرهم بهم خيَّروهم بين اثنين؛ الإسلام أو الجزية، وإن رَجَعوا عن المعركة منهزمين أنفذوا شروط الصلح مهما كانت الشروط، فلا بد من الوفاء، وصلح الحديبية أولُ مَثَل ضرب في الإسلام، خضع فيه المسلمون لشروط جائرة، وكان الصبر عليها كفيلاً بالخروج منها من قريب.
وإسلام العدو الذي يَهَبُه على الفور كل حقوق المسلم كان مثلاً للمساواة بين الغالب والمغلوب، التي تدهش لها عقول مَن يعرفون شراسة الاضطهاد الدينية، التي ارتكبها أهل الأديان الأخرى في كل العصور، وإباءُ العدوِّ الإسلامَ لا يكلِّفه غير الجِزْية والخراج، إلا إذا كان من أهل الردة، أو من عبدة الأوثان، فليس عليه سبي ولا جزية، وإنما كان القتل أو الإسلام.
وقد شُوهِد أن مجاورة الذمي للمسلم في البلد المفتوح صلحًا أو عنوة، ومزاولة التجربة بالرفق وحسن الجوار، ومصاهرة العرب لأهل الذمة، كانت كلها دوافع قوية لإسراع أهل الذمة إلى التخلص من حال دافعي الجِزْية إلى الارتفاع إلى مكان المسلم، فدخلوا في الإسلام أفواجًا، وقد عَمِل قانون الجاذبية – الذي يعمل عملاً ظاهرًا في المادة – نفس العمل في الروح وفي السلوك؛ فقد تم لبعض أهل الذمة أن كانوا في سلوكهم إسلاميين حين انطبعوا بالجوار على الخير والمعروف، وبقوا على سلوكهم الشريف، بل شاركهم الذين تأثَّروا بالإسلام من بعدُ؛ بتبادل الدراسات والتجارة والرحلات، حين أحسوا بالتسامح الإسلامي الذي يقول فيه “أرنست رينان”: “لم يظهر قط فاتحون بالغوا في التسامح والحلم نحو المغلوبين كما صنع العرب”.
وليس يطعن في ذلك الأمر بشدِّ الوثاق على الكفار بعد إثخانهم الذي أوصى به القرآن؛ إذ لا يراد منه الإرهاق، وإنما إحكام شروط الصلح، ولا يكلف فوق طاقته عدو مقهور.
وقد يظهر ذلك غير مقبول لأول وهلةٍ، ولكن مَن يرى الدعوة للإسلام أو الجزية تسبق القتال، ويرى الحث على تسكين الهياج ومسالمة المحايدين، ويرى الأوامر المتكررة في القرآن بالوفاء بالعهود وعدم نقضها، ويرى الأمر بالجنوح إلى السلم فورَ جنوح العدو له، ويرى الوصايا بالتزام جانبي الاعتدال والتخفيف من شروط الصلح؛ كل مَن يرى ذلك تذهب عنه أول وهلة، ويستيقن أنه ليس أعطف على السلام من الإسلام، وقد صارت المدينة حرمًا آمنًا، حرَّمها النبي – صلى الله عليه وسلم – كما حرَّم إبراهيم – عليه السلام – مكة، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا يحمل فيها سلاح للقتال، فتحُ المدينةِ كان أفضل الفتوح، لقد فتحت بالدعوة دون إراقة دم أو لفحة عتاد”..