مقالات

مخربشات واساطيرالجبانة الفاطمية باسوان

متابعة حمدي الدالي

الجبانة الفاطمية تعد واحدة من أقدم وأشهر الجبانات الإسلامية في مصر، وتتميز بقبابها التي تعود إلى العصر الفاطمي (358- 567هـ/ 969- 1171م). وهي تعكس حقيقة تاريخية بخصوص تواجد كتلة شيعية وبعض آل البيت في المدينة منذ زمن طويل .
كما أثبت الأدفوي في كتابه (الطالع السعيد الجامع لأسماء نجباء الصعيد)، وكانت أسوان في تلك الفترة ثغر مصر الجنوبي، ومدخل البلاد الجنوبي فكانت مدينة على قدر كبير من الأهمية والخطر الاستراتيجي والثقل التجاري بالنسبة للفاطميين. كما رصد الدكتور محمد الحويري في كتابه (أسوان في العصورالوسطى).
أهمية الجبانة الفاطمية لا تقف عند طبيعتها الأثرية والمعمارية الفريدة إذ تعد من أكبر الجبانات الإسلامية التاريخية في مصر كلها، بل تكتسب أهمية أخرى كونها موقعا للتراث الحي. إذ رغم طابعها الأثري فهي لا تزال مستخدمة من الأهالي ليس على مستوى دفن الموتى فقط، بل على مستوى التدين الشعبي. ما يجعل الجبانة الفاطمية نقطة جذب روحية ودينية للمدينة، لذا تجد الكثير من بصمات الأهالي عبر الزمن على جدران القباب الضريحية بالجبانة، لذلك صدر عن المعهد الألماني للآثار عن مشروع ترميم وتوثيق وإدارة موقع الجبانة الفاطمية بأسوان، دراسة مهمة عن مخربشات الزوار بالجبانة الفاطمية في 2022، كانت الدكتورة فاطمة كشك إحدى أبرز المشاركين فيها.

حكايات الجبانة الفاطمية في أسوان لا تنتهي، لكن تظل حكاية قاضي الشريعة الشيخ أبو زهرة مركزية في حكاوي أهالي أسوان، والتي ترسم علاقتهم في أزمنة مختلفة مع هذه الجبانة السحرية. وتكشف لنا كيف أخضعوا هذه المنطقة الأثرية لمزاج التدين الشعبي، الذي أعاد نسج مفردات المكان في جدارية جديدة تعبر عنهم وتنتمي لهم. بما يكشف عن حوار بين الأثر ومحيطه البشري أخذ من كل الطبقات الحضارية التي مرت على مدينة بعظمة أسوان، وتركت بصمات لا تنسى على هذه المدينة ذات الموقع السحري. نعرف متى اختار المزاج الشعبي إحدى القباب الفاطمية ليطلق عليها لقب الشيخ “أبو زهرة قاضي الشريعة”. لكنك ستعرف القبة فور أن تزور المكان لأنها مميزة بلون أزرق يلطخ جدرانها وأرضيتها الداخلية. وهو لون الزهرة ذلك المسحوق المستخدم في غسل الملابس في بيوتنا القديمة. والذي يبدو أنه السبب في حمل قاضي الشريعة لكُنية أبي زهرة. ونحن نعرف أن الإمام الشافعي حمل لقب قاضي الشريعة لكنه أمر منفصل عن قصة قاضينا في أسوان. تحكي الأسطورة الأسوانية عن قاضي الشريعة الذي يواصل مهام منصبه من العالم الآخر. فالولي حاضر لحل مشاكل مريديه، لذا تتقدم النساء بإلقاء مادة الزهرة الزرقاء داخل قبة قاضي الشريعة. من أجل أن يكشف لها عن المستور والحقيقة الغائبة عنها، ومعرفة من يترصد لها بعمل سحري. أو إذا كان زوجها متزوج من أخرى، أو غير ذلك من أمور تشغل عقول النساء والرجال في المجتمعات ذات الأصل الريفي. ويكشف حجم مادة الزهرة الملقاة داخل الضريح عن حجم الاعتقاد الشعبي الواسع في كرامات قاضي الشريعة.
فالبعض استخدم رمزية قبة قاضي الشريعة في تنمية عادات سيئة. مثل دق مسمار في جدار القبة الضريحية، من أجل طلب الأذية لشخص بعينه. يتم تحديده وذكره عند دق المسمار في جدار القبة. بينما إذا أردت أن تقلب حياة عدوك رأسا على عقب فما عليك إلا أن تكنس قبر قاضي الشريعة أو تلقي بمقشة داخل المقبرة.
قصة قاضي الشريعة، ليست وحدها التي تزين الجبانة الفاطمية، فإذا كان الأهالي يبحثون تحت القبة عن العدل الغائب. فإن الفتيات يبحثن عن السعادة التي تبشر بها الحياة الزوجية القادمة في قبة أخرى غير بعيدة عن قبة قاضي الشريعة. وهي قبة سيدي إبراهيم الدسوقي، التي تندفع إليها الفتيات المقبلات على الزواج، لوضع الحناء على القبة طلبا لإنجاح الزيجة المرتقبة. فإذا كانت قبة قاضي الشريعة ملطخة باللون الأزرق. فقبة الدسوقي ملطخة بالأحمر المحروق لون الحناء المستخدمة بكثافة في الليلة السابقة على ليلة الدخلة.
قبة إبراهيم الدسوقي
ولا تتعجب من وجود قبة منسوبة لإبراهيم الدسوقي في جبانة أسوان. رغم أنه مدفون في مدينة دسوق في أقصى شمال البلاد حيث محافظة كفر الشيخ المطلة على البحر المتوسط. فالأمر تم تفسيره في المعتقد الصوفي بطريقة رومانتيكية بديعة. إذ يرى أهالي أسوان أن أقطاب الصوفية وكبار آل البيت، رأوا أن المسافة كبيرة على أهل أسوان لزيارة مراقدهم ومشاهدهم المتمركزة في أماكن متفرقة من أنحاء مصر. لذا وضعوا لهم عدة أضرحة بديلة تمثل كل قطب وشريف في المدينة. لكي يكون لقاء المحبة مستمرا وبلا أي مشقة على الأسوانيين.
فلا تتعجب عندما تجد قبة في الجبانة الفاطمية كتب عليها اسم أبي الحسن الشاذلي. أو يشير البعض إلى قبتين متجاورتين بأنهما للحسن والحسين ابني السيدة فاطمة الزهراء، بينما تقع قبة على أعلى الجبل المطل على الجبانة ويطلق عليها الأهالي قبة السيدة زينب. لقد تحولت الجبانة الفاطمية إلى ساحة لقاء بين رموز آل البيت والأولياء في مصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى