شقافات “دير المدينة” تكشف اسرار المعاملات في مصر القديمة
كتب محسن شعراوي
في ظلال الأقصر العريقة، حيث تتربع مقابر وادي الملوك الشامخة، كانت هناك قرية صغيرة تنبض بالحياة، تُعرف باسم “ست ماعت”، أو “مكان الحق”. هذه القرية، التي يُطلق عليها الآن “دير المدينة”، كانت موطنًا لأولئك الذين نحتوا ورسموا وبنوا المقابر الملكية العظيمة.
كان سكان “دير المدينة” يدونون تفاصيل حياتهم اليومية على شقافات الفخار، مخلدين بذلك تنظيم عملهم، وخلافاتهم، وحتى الجرائم التي شهدتها القرية. ومن بين السطور، تظهر صورة حياة مليئة بالتقاليد والطقوس، ولكن أيضًا بالمشكلات الإنسانية العادية، مثل الخلافات الزوجية والأعياد الدينية.
وفي هذا العصر، يستمر العلماء في استكشاف هذه الشقافات، بحثًا عن أسرار الحياة اليومية لسكان القرية. يدرسون مساند الرأس، واللوحات المنقوشة، وموائد القرابين، وأدوات الرسامين، ليكشفوا عن تنظيم العمل والتقاليد التي كانت تحكم حياة هؤلاء الناس.
ومن بين الشخصيات البارزة في تاريخ “دير المدينة”، يبرز “با نب”، الذي اشتهر بأكثر من ثلاثين اتهامًا، والذي كان يُعتقد أنه إما مجنون أو مجرم بطبعه. وكانت القرية تضم محكمة خاصة بها، يشارك فيها الضباط والكتبة والنواب.
وفي هذا النسيج الغني من التاريخ، تتجلى الحياة اليومية لسكان “دير المدينة” بكل تفاصيلها الدقيقة. كانت الشقافات تسجل كل شيء، من الأعياد الدينية التي تعطل فيها العمل، إلى الأيام التي يغيب فيها العمال لصنع الجعة أو بسبب خلافات عائلية. حتى طبيب القرية لم يسلم من التدوين، فقد كانت هناك ملاحظات تشير إلى غيابه عن العمل لرعاية مريض.
ومع مرور الزمن، تُركت قرية “دير المدينة” لتصبح شاهدًا صامتًا على حياة هؤلاء العمال الذين ساهموا في بناء إحدى أعظم حضارات الإنسانية. واليوم، تُعطينا الشقافات والآثار المكتشفة نظرة ثاقبة إلى عالمهم، مما يسمح لنا بإعادة تشكيل صورة حياتهم بألوان وتفاصيل غنية، وكأنها لوحة تاريخية تُروى من جديد.