كتب: صالح العطوان الحيالي
لقد اهتم الإسلام بشؤون المجتمع كما اهتم بأمور الأخلاق، وعني بهما عناية كبيرة وفائقة ، ووضع لهما قوانين دقيقة ونظم أمورهما تنظيما شاملا وتطرق حتى إلي أبسط جزئية لهما من آداب الأكل والنوم والشرب والغائط والبول وغيرها ، لكي يقوم المجتمع الإسلامي على أسس قوية ومتينة ويكون مجتمعا مثاليا وحقيقيا خاليا من العيوب والنقائص على العموم ، كما ينشأ ويتربي كل مسلم على أخلاق حميدة وعالية ، ويكون نموذجا حيا ومثاليا للإسلام وقدوة حسنة أمام الغير ويكون قمة في أخلاقه.
ولا ريب أن المسلمين الأوائل بلغوا القمة في الأخلاق ،وقدموا أروع الأمثلة وأفضل النماذج في هذا الباب أمام جميع أهل الأرض ، فكانوا بلا شك أصدق صورة وأفضل أنموذج للإسلام، كما كان المجتمع الإسلامي الأول مجتمعا مثاليا قائما على أسس التعاون والمودة وخاليا من الفواحش والمنكرات في الأغلب وكان أصدق تعبير للإسلام وأفضل تمثيل له.
ولذا عندما فتح المسلمون الأندلس و صقلية و جنوب فرنسا ، وسكنوا فيها وتعاملوا مع أهلها ، كذلك حينما وردت جحافل النصارى خلال الحروب الصليبية في العصور الوسطى إلي بلاد الشام وأقاموا فيها واختلطوا مع سكانها المسلمين ، شاهد الأوربيون في كلتا الحالتين بأعينهم أخلاق المسلمين العالية و صفاتهم المحمودة في هذه المناطق ورأوا عن كثب مجتمع المسلمين المثالي ، ولاحظوا عن قرب العادات والتقاليد الاجتماعية الإسلامية فاندهشوا وافتتنوا بها ، وشغفتهم أخلاق المسلمين وعاداتهم الاجتماعية ومن ثم أخذ الأوربيون في تقليد كثير من أخلاق و عادات و تقاليد المسلمين وهكذا انتقلت كثير من العادات الاجتماعية و الأخلاق الإسلامية إلي أوربا.
ومن هذه الصفات و الأخلاق والعادات ما يلي:-
التسامح الديني ، الفتوة ، التكافل الاجتماعي ، الصبر ، الكرم ، حسن الجوار، كرم الضيافة ، احترام المرأة الرفق بالحيوانات ، بعض الألعاب الرياضية ، بعض طرق الصيد ، رقة العواطف،لين الطبائع ، احترام الأرقاء الشجاعة ، عادة الاستحمام الحمامات ،احترام العهود والوفاء بالوعود، مساعدة الأرامل والنساء المساواة وإلغاء الطبقات الاجتماعية تحرير العقل ونشر بذور الحرية الاجتماعية ، فن الطبخ و بعض الأطعمة ، قواعد الفروسية وأخلاقها،د أدوات الزينة، الملابس، بعض فنون العمارة و الموسيقي وبعض الآلات الموسيقية … الخ.
ويظهر من الفقرة السابقة أن التأثيرات الاجتماعية والأخلاقية للحضارة الإسلامية علي أوربا كثيرة ومتعددة وواسعة وشاملة لكثير من النواحي والجوانب ، ولا يمكن تناول كلها في هذا البحث الموجز ، ولذا أكتفي ببيان وشرح بعض أبرز الصفات و أشهر العادات وأفضل الأخلاق التي لها أثر عميق و واسع علي أهل أوربا، وهي كما يلي :-
1- التسامح الديني : و تعتبر هذه الصفة من أثمن و أجمل صفات المرء التي يجب أن يتحلي بها كل إنسان على وجه هذه الأرض ، كما هي من أجل الصفات و أكرمها التي انتقلت إلي أوربا من المسلمين ، فقد أجمعت المراجع والوثائق الأوربية علي أن النصارى و اليهود والزرادشتية والصابئة وغيرهم من أهل الأديان الأخرى تمتعوا في ظل الحكم الإسلامي بدرجة من التسامح والحرية الدينية ليس لها نظير في البلاد المسيحية المعاصرة , وذلك أنهم تركوا أحرارا في مباشرة شعائر أديانهم واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم , ولم تفرض عليهم سوى جزية ضئيلة تراوحت قيمتها بين دينار وأربع دنانير ولم تفرض هذه الجزية إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح ويُعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ , والأرقاء والشيوخ والعجزة والمعدمين , ومن الواضح أن أهل الذمة أعفوا من الخدمة العسكرية مقابل دفع الجزية , كذلك أعفوا من الزكاة التي فرضت على المسلمين وحدهم . وهكذا أخذ المسيحيون في جميع البلدان الإسلامية يمارسون شعائر دينهم في حرية تامة , حتى بقيت غالبية أهل الشام مسيحية حتى القرن الثالث الهجري.
2- الفتوة : أثبتت الأبحاث والدراسات الأوربية أن الصدارة في هذه الصفة النبيلة المشرفة ثابتة للمسلمين, وكان لها على الغرب أثر بعيد الغور، ولقد أخذ أهل أوربا هذه الصفة من المسلمين وشهد به الغرب بأنفسهم , يقول العالم الفرنسي الجهبذ” فورييل” في كتابه” تاريخ الشعر البروفانسي” هناك ما يدفع المرء إلى استنباط أن عرب الأندلس كان لهم بوساطة مثلهم أثر حقيقي في الحضارة الخلقية والاجتماعية في جنوب فرنسا وأخص من ذلك في القسم الأكثر سيادة في هذه الحضارة وهو الفتوة”.
وإن تفوق المسلمين على الغربيين في الفتوة وما ينبثق عنها من الفضائل أمر معترف به من الجميع ولإيضاح ذلك يقول الكاتب الإنجليزي” ايستانلية” في كتابه صلاح الدين وتاريخ مملكة أورشليم” إن الذين درسوا تاريخ الحروب الصليبية ليسوا في حاجة إلى أن يتعلموا , أن فضائل الحضارة كالشهامة وكبر النفس وكرم الخلق والتسامح والفتوة الحقيقية والثقافة الرشيقة كانت كلها إبان تلك المكافحات في جانب المسلمين. وهؤلاء المؤرخون عندما يتحدثون عن الفتوة يعزون إلي المسلمين الفضل في معرفتها , وبتفتح نظامها في أوربا وصقله وترقيته وتوسيع آفاقه , ويقول في هذا الصدد العالم الفرنسي” بار تيليمي سابنهلير” في كتابه” محمد والقرآن”أنه بسبب مخالطة العرب ومحاكاتهم استطاع أشرافنا في العصور الوسيطة أن يجعلوا طباعهم الفظة لينة , وعرف فرساننا- دون أن يفقدوا شيئا من شجاعتهم ـ عواطف أكثر نبلا ورقة تكون المسيحية وإنسانية,ومن المشكوك فيه أن رغم ما تقدمه من خير هي وحدها التي ألهمتهم هذه الأحاسيس. ولقد ذهب فريق من المؤرخين إلى أن الفتوة الإسلامية سابقة في نشأتها على الفتوة الغربية , بل يجزم بأن الغرب قبل اتصاله بالمسلمين في أسبانيا لم يكونوا يعرفون شيئا من الفتوة ومن هذا الفريق الكاتب الباحث” هامبريورجستول”، ويتضح مما سبق بوضوح تام أن الفتوة صفة إسلامية عريقة وأصيلة أخذها الغرب عن الإسلام والمسلمين .
3 – التكافل الاجتماعي : وهو يعني حق كل إنسان بالحياة الكريمة والتحرر من الحاجة والفقر , وبعبارة أخرى هو تحميل أهل الرخاء في مجتمع ما مسؤولية حياة المحرومين والعاجزين .
وقد جعل الإسلام للتكافل الاجتماعي صندوقا خاصا , وجعل الجباية لهذا الصندوق من أولى واجبات الدولة وجعل من مصاريف هذا الصندوق شراء الأرقاء وتحريرهم , والوفاء عن الغارمين العاجزين عن وفاء ديونهم , كما يستفيد من صندوق هذا التكافل الاجتماعي في الإسلام كل من الشيخ العاجز والأرملة التي لا عائل لها والمريض , والعاجز عن العمل بسبب من الأسباب , واليتيم الذي لا مورد له , والمصابين بكوارث الحريق والسيول وانهيار البيوت وأسر المرضى المحتاجين بل وأسر السجناء مهما كانت أسباب السجن وغيرهم. وهذه الصفة لم تكن معروفة قبل الإسلام , ولم يعرف لها مثيل لدى الأمم من قبل , فهي صفة إسلامية خالصة ونظام اجتماعي إسلامي بحت , جاء به الإسلام وألزم أهله برعاية الفئات المذكورة أعلاها , بعد أن كان المحروم في كثير من المجتمعات قبل الإسلام معرضا لفقد حريته , بل ولقتله أيضا كالمدين إذا عجز عن وفاء دينه كما هو معروف في حقوق روما القديمة , وكما هو معروف عند بعض العرب من قتل أولادهم خشية إملاق والجوع , ولم تنتقل هذه الصفة الحميدة إلى الغرب إلا بدءا من أواخر العصر الماضي .
ولذا نرى أن الغرب شعبا وحكومة يهتم بالمحرومين , و الآن توجد صناديق التكافل الاجتماعي لا في جميع دول الغرب فحسب بل في جميع دول العالم وهذه نعمة جليلة من نعم الإسلام ومنة كبرى من مننه اللامحدودة على البشرية جمعاء.
4- قواعد الفروسية وأخلاقها : انتقلت إلى أوربا قواعد الفروسية وأخلاقها فإن الفروسية العربية لها شروطها وآدابها ولا يكون المرء فارسا إلا إذا تحلى بهذه الخصال العشر، وهي الصلاح والكرامة ورقة الشمائل والقريحة الشعرية والفصاحة والقوة والمهارة في ركوب الخيل والقدرة على استعمال السيف والرمح و النشاب. وتوجد وقائع كثيرة تدل على انتشار تلك الخصال بين فرسان العرب , فكانوا يرحمون الضعفاء ويرفقون بالمغلوبين ويقفون عند شروطهم , فاقتبست الأمم النصرانية في أوربا هذه الخلال من فرسان المسلمين مؤخرا , و ذاعت خصال الفروسية تلك بين النصرانية ولكن ببطء , فأثرت في نفوس النصارى وأصلحت طبائعهم وهذبتها .
5-احترام المرأة وإنسانيتها :لم تكن المرأة قبل الإسلام تحظي بأي مكانة لدى الشعوب والأمم المختلفة . وكانت تعامل معاملة قاسية من قبل المجتمع ، ولم يكن لها حقوق التمليك والإرث والتجارة وغيرها، وكان قدرها الاجتماعي منحطا جدا، وخلاصة القول أنها لم تكن تملك من أمرها ونفسها شيئا .
6- الرفق بالحيوانات : صفة نبيلة جاء بها الإسلام , وأمر أتباعه بالرفق مع جميع المخلوقات ومنها الحيوانات , ومن هذا المنطلق عامل المسلمون مع الحيوانات وغيرها معاملة حسنة وبرفق عظيم , فالمسلم لا يؤذي أحدا ولو كان حيوانا .
7-الاستحمام و الحمامات: عادة الاستحمام وخلع الملابس هي من العادات الاجتماعية التي اقتبسها الأوربيون من المسلمين ، فالمعروف عن الأوربيين أنهم كانوا لا يغتسلون إلا مرة أو مرتين كل عام وبالماء البارد ، وكانوا لا يغسلون ملابسهم بعد أن لبسوها وكانوا يعتقدون أن القذارة مظهر من مظاهر العفاف ، بينما الاستحمام و خلع الملابس فسق ودعارة .و لكن حينما ورد الأوربيون إلي بلاد الشام في الحروب الصليبية ، و شاهدوا الحمامات في كل مكان ، فهاموا بها كما هام بها أولئك الغربيون الذين شاهدوها في أسبانيا و صقلية ، فألحوا في إدخالها إلى أوربا بالرغم من المعارضات الشديدة . و هكذا انتقلت هذه العادة الحميدة إلى أهل أوربا .
8- الملابس والزينة : أعجب أهل أوربا بملابس المسلمين ، فقلدوهم في اللبس أيضا، واستعمل أهل فرنسا الملابس الشرقية الفضفاضة والعباءات العربية المزركشة بالخيوط الذهبية والثياب ذات الأكمام الواسعة المطرزة بالخيوط , ولم تلبث ملابس الفرنجة أن أضحت من الفخامة والأبهة أن صار لها من الصفة الشرقية ما كان لأثاث دورهم ومنازلهم إذ حمل الفارس الأوربي عدته وسلاحه وارتدي برنسا من الحرير وقلد العربَ والمسلمين أيضا في لبس العمامة وفي ارتداء سترة من الكتان فوق درعه لوقاية الزرد من حرارة الشمس المحرقة في الصيف وذلك عند خروجه للقتال ولبس الكوفية بدل الخوذة .
9- فن العمارة و أثاثها : أثر المسلمون في فنون أوربا ولا سيما في فن عمارتها وأخذ الغربيون من
المسلمين أصول فن العمارة والعناصر المعمارية المهمة والزخارف بأنواعها والكتابات العربية والجواسق والأطناف والأبراج وغيرها .
10- فن الطبخ : أخذ الأوربيون من المسلمين فن الطبخ و أنواعه المختلفة وأقبلوا عليها إقبالا شديدا بسبب إعجابهم نكهتها ، ولأنها كانت أشهى وألذ من أطعمتهم و خاصة أنواع الأطعمة التي يكثر فيها استعمال السكر و البهارات، وأقبلوا على استعمال أنواع الفطائر والمعجنات والتمر الهندي والذرة الشامية والأطياب و البهارات و الأنواع الأخرى . كما أدخلوا كثيرا من النباتات الشرقية إلى بلادهم مثل البطيخ والثوم والأرز والسمسم والليمون و قصب السكر ، بالإضافة إلى أنواع كثيرة من التوابل والأصباغ والعقاقير الشرقية واستخدموا السكر في أطعمتهم.
المصادر:
فوريل تاريخ الشعر البروفانسي.
ايستانلي صلاح الدين وتاريخ مملكة أورشليم.
بارتيليمي .محمد والقرآن.
غوستاف لوبون.
هونكة.
مسيو شارل.
أقرأ التالي
2025-04-14
ثاليدومايد: الدواء الذي حوّل أرحام الأمهات إلى مقابر مشوهة
2025-04-14
عبدالله بن أبي السرح
2025-04-14
العقل الأزرق: درعك الخفي في زمن الغرق الرقمي!
2025-04-12
أساليب التربية السليمة والفرق بين التربية والرعاية
2025-04-11
منطقة آثار الهرم مابين الحفاظ على الآثار والإستثمار
2025-04-10
التحركات المصرية من أجل غزة
2025-04-10
مشيرة موسى تكتب ” دخلونى جمعية “
2025-04-07
المقداد بن الأسود رضي الله عنه .. أول من عدا به فرسه في الإسلام
2025-04-06
الفصاحة والبلاغة
زر الذهاب إلى الأعلى