كتب- صالح العطوان الحيالي
العزة خلق محمود، وهي من أعظم أخلاق الإسلام، فالمسلم لا يهان ولا يستضعف ولا يستخف به، وأعظم ما يعتز به المسلم دينه وكتاب ربه عز وجل.وقد حرم الإسلام على المسلم أن يهان، أو يستذل، أو يستضعف، ورمى في قلبه القلق والتبرم بكل وضع يخدش كرامته وجرح مكانته، فالعزة والإباء والكرامة من أبرز الخلال التي نادى الإسلام بها، وغرسها في أنحاء المجتمع وتعهد نماءها بما شرع من عقائد وسنّ من تعاليم .
العزة لغة هي مصدر مأخوذ من مادة (ع ز ز)، فيقال: عَزَّ يَعِزّ بالكسر عِزًّا وعِزَّةً وعَزازَة، ورجل عَزيزٌ من قوم أَعِزَّة وأَعِزَّاء وعِزازٍ.وعَزَّ الرجلُ يَعِزُّ عِزًّا وعِزَّةً: إِذا قوي بعد ذِلَّة، وصار عزيزًا وأَعَزَّه اللهُ. والعِزُّ خلاف الذُّلِّ، وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: «هل تَدْرِينَ لِمَ كان قومُك رفعوا باب الكعبة؟ قالت: لا. قال: تَعَزُّزًا أَن لا يدخلها إلا من أَرادوا»؛أَي تَكَبُّرًا وتشدُّدًا على الناس.والعِزُّ في الأَصل القوة والشدة والغلبة، والعِزُّ والعِزَّة: الرفعة والامتناع والعِزَّة لله، وفي التنزيل العزيز: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]؛ أَي له العِزَّة والغلبة سبحانه.
العِزَّةُ اصطلاحًا هي حالةٌ مانعة للإنسان من أن يغلب، من قولهم: أرضٌ عَزَازٌ، أي: صُلْبةٌ. قال تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]. وَالعَزيزُ: الذي يَقهر ولا يُقهر. قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26] وهي الغلبة الآتية على كلية الظاهر والباطن.
قال ابن الجوزي: ذكر بعض الْمُفَسّرين أَن الْعِزَّة فِي الْقُرْآن على ثَلاثَة أوجه أَحدهَا: العظمة. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الشُّعَرَاء: {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44]، وَفِي ص: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
وَالثَّانِي: المنعة. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة النِّسَاء:{أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139].
وَالثَّالِث: الحمية. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْبَقَرَة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة: 206]. وَفِي ص: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 2].
ويتضح مما سبق أن العزة في القرآن الكريم يُمدَح بها تارةً، ويُذَمُّ بها تارةً، على هذا النحو:
العزة الممدوحة: وهي التي لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ، وهي الدائمة الباقية التي هي العِزَّةُ الحقيقيّة.
العزة المذمومة: وهي التي للْكَافِرِينَ وَهِي التعزز الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَة ذل لأنّه تشَبُّع بما لم يُعطَه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة: 206]، حَيْثُ استعيرت للحمية والأنفة المذمومة.
وهي كما قال رسول الله صلى الله عله وسلم: «كلّ عِزٍّ ليس بالله فهو ذُلٌّ» وعلى هذا قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم: 81]؛ أي ليتمنّعوا به من العذاب.
لم يرث الأنبياء غير العلماء، وإذا كانت رتبة النبوة أعلا المراتب وأشرف المنازل عند الله تعالى، فإنه لا يليها في المرتبة والمنزلة غير تلك التي ورثتها، ولقد قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
العلماء أعزّاء بالعلم الذي هو إرث الأنبياء، فلا يخضعون ولا يذلون ولا يهانون، إذ أنهم لا يريدون من دنيا الناس شيئًا،حكامًا كانوا أو محكومين !! وهكذا فلا يضيرهم كيد المستكبرين، ولا ظلم المستبدين، ولا بريق أموال المزهوين ويستوي في ذلك الأمر أن يكونوا أغنياء أو فقراء، فإنهم يعلمون قوله صلى الله عليه وسلم: “لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ”.
نماذج من عزة العلماء:
1- عزة العز بن عبد السلام:
ذكر السيوطي في حسن المحاضرة أن السلطان الصالح إسماعيل استعان بالصليبيين وأعطاهم مدينة صيدا وقلعة الشقيف، فأنكر عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وترك الدعاء له في الخطبة، وساعده في ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فغضب السلطان منهما، فخرجا إلى الديار المصرية. فأرسل السلطان إلى الشيخ عز الدين -وهو في الطريق- رسولاً يتلطف به في العودة إلى دمشق، فاجتمع به ولاينه، وقال له: ما نريد منك شيئًا إلا أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير!! فقال الشيخ له: يا مسكين، ما أرضاه يُقبِّل يدي، فضلاً عن أن أقبل يده! يا قوم، أنتم في وادٍ وأنا في واد! والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم وفي مواقف أخرى له أيضًا يقول الباجي: خرج السلطان أيوب في يوم العيد في أُبَّهة الملك، وأخذت الأمراء تقبل الأرض فالتفت إليه الشيخ العز بن عبد السلام وناداه: يا أيوب، ما حُجَّتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك مُلك مصر ثم تبيح الخمور ؟فقال السلطان: هل جرى هذا ؟
فقال العز: نعم، الحانة الفلانية يُباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلَّب في نعمة هذه المملكة -يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون!!قال: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.فقال العز: أنت من الذين يقولون: “إنا وجدنا آباءنا على أمة”؟!
فأمر السلطان بإبطال تلك الحانة.
فسأله الباجي: أما خفته؟
قال العز: والله يا بني، استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان قُدَّامي كالقِط !!.
2- عزة الحسن البصري:
ذكر ابن عبد البر من أن الحجاج سأل خالد بن صفوان: مَنْ سيد أهل البصرة؟ فقال له: الحسن (الحسن البصري). فقال: وكيف ذلك وهو مولى؟! فقال: احتاج الناس إليه في دينهم، واستغنى عنهم في دنياهم، وما رأيت أحدًا من أشراف أهل البصرة إلا يروم الوصول إلى حلقته؛ ليستمع قوله ويكتب علمه.فقال الحجاج: هذا -والله- السُّؤْدد!!وتلك العزة التي هي في الغنى، صورها الشافعي رحمه الله حين قال منشدًا:
أمطري لؤلؤًا جبال سرنديــــب
وفيضي آبار تــــــبريز تــبرًا
أنا إن عشت لســت أعدم قوتًا
وإذا مت لســـت أعدم قبـــرًا
همتي همة الملــوك ونفســــي
نفس حر تـــرى المذلة كفـرًا
وإذا ما قنعت بالقــوت عُمري
فلماذا أهاب زيدًا وعمــــرًا؟!
3-عزة أبي حازم التابعي:
ذكرها أبو حازم التابعي رحمه الله حين دخل على الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك؛ ورأى منه الأخير عزته وقوته في الحق؛ فقال له يطلب صحبته:هل لك أن تصحبنا وتصيب منا ونصيب منك؟ قال: كلا قال: ولم؟ قال: إني أخاف أن أركن إليكم شيئًا قليلاً، فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا يكون لي منه نصيرًا. قال: يا أبا حازم، ارفع إلىَّ حاجتك. قال: نعم، تدخلني الجنة وتخرجني من النار. قال: ليس ذاك إلي قال: فما لي حاجة سواها.
4- عبد الحميد الجزائري:
استدعى المندوب السَّامي الفرنسي في سورية الشَّيخ عبد الحميد الجزائري، وقال له: إما أن تقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار، وإلَّا أرسلت جنودًا لإغلاق المسجد الذي تنفث فيه هذه السُّموم ضدَّنا، وإخماد أصواتك المنكرة. فأجاب الشَّيخ عبد الحميد: أيُّها الحاكم، إنَّك لا تستطيع ذلك؟! واستشاط الحاكم غضبًا، وقال: كيف لا أستطيع؟ قال الشَّيخ: إذا كنتُ في عُرْسٍ علَّمتُ المحتفلين، وإذا كنتُ في مأتم وعظتُ المعزِّين، وإن جلستُ في قطار علَّمتُ المسافرين، وإن دخلتُ السِّجن أرشدت المسجونين، وإن قتلتموني ألهبت مشاعر المواطنين، وخير لك أيُّها الحاكم ألا تتعرَّض للأمَّة في دينها ولغتها.
المصادر :
القران الكريم.
الدكتور راغب السرجاني.
ابن عبد البر.
ابن الجوزي .
البخاري .
السيوطي .
السبكي.
أقرأ التالي
2025-04-15
الإعلام الرقمي.. التحول الكبير وأدوار الصحفي في مواجهة تحديات المستقبل
2025-04-14
ثاليدومايد: الدواء الذي حوّل أرحام الأمهات إلى مقابر مشوهة
2025-04-14
عبدالله بن أبي السرح
2025-04-14
العقل الأزرق: درعك الخفي في زمن الغرق الرقمي!
2025-04-13
التأثيرات الإجتماعية والأخلاقية للحضارة الإسلامية علي أوربا
2025-04-12
أساليب التربية السليمة والفرق بين التربية والرعاية
2025-04-11
منطقة آثار الهرم مابين الحفاظ على الآثار والإستثمار
2025-04-10
التحركات المصرية من أجل غزة
زر الذهاب إلى الأعلى