مقالات

مهند القحطانى ( التنوع الثقافى فى الخطاب الإعلامى)

تقوم وسائل الإعلام بدور أساسي في حماية الثقافة ونقلها وتغييرها أيضًا، وهي ذات وظيفة تنموية تعمق الهوية الثقافية قوميًا ووطنيًا وتقاوم الغزو الثقافي؛ إن وسائل الإعلام هي أدوات ثقافية تساعد على دعم المواقف أو التأثير فيها، وعلى تعزيز ونشر الأنماط السلوكية وتحقيق التكامل الاجتماعي، وهي تلعب دورًا أساسيًا في تطبيق السياسات الثقافية وإضفاء طابع ديمقراطي على الثقافة.

إن علاقة الإعلام بالثقافة هي في جوهرها علاقة النوع بالكل إلا أنهما كثيرًا ما يتداخلان إلى حد التطابق، يشهد على ذلك التطابق الشديد بين السياسات الإعلامية والسياسات الثقافية.

إن العلاقة بين الخطاب الإعلامي والتنوع الثقافي، تنفتح على أكثر من مشغل وحقل فكري من انثروبولوجيا الاتصال إلى الأثنوجرافيا ومن الدراسات الثقافية إلى أركيولوجيا المعرفة، ومنها أيضًا إلى علوم الإعلام والاتصال في شكلها العام بما هي دراسة وتقص للمضامين والمنظومات والتمظهرات الإعلامية والبحث في سياقات الانتاج وميكانيزمات التلقي.

ومن ثمة لا يمكن الفصل بين ما هو ثقافي وما هو إعلامي، على الرغم من تفرع التعريفات وتعدد للثقافة والإعلام فلا شيء يفصل بين الاثنين، وذلك أن الإعلام هو مرآة عاكسة لديناميكية الحياة الاجتماعية بكل تفرعاتها.

إن العلاقة بين الخطاب الإعلامي والتنوع الثقافي سمة أخذت في البروز في بحوث الإعلام، حيث أن وسائل الإعلام تستمد الإطار العام لعملها من الثقافة المحيطة بها، كما أنها بدورها تعد من أهم أدوات الثقافة لأي مجتمع، فهي تقوم بوظيفة غرس القيم الثقافية في المجتمعات المختلفة.

وبالتالي، فإن القول بأن العلاقة بين الإعلام والثقافة في عصر العولمة هي علاقة تبادلية فيها نوع من المغالطة، فالأصل أن الخطاب الإعلامي في هذا العصر هو المنفذ الأساسي لتدفق المضمون الثقافي من اجل تعميم نمط ثقافي واحد تستخدم فيه كل التقنيات الحديثة وعلى رأسها تقنية الصورة، مما خلق ظاهرة الاختراق الثقافي في ضوء المفاهيم المعاصرة للهيمنة الثقافية العالمية؛ فما هو حاصل اليوم في ظل العولمة الإعلامية والثقافية، أن تكنولوجيا الصورة شكلت تهديدا للتنوع الثقافي والتعددية الثقافية وعدونا سافرا لمبدأ احترام الهوية الثقافية للشعوب المختلفة.

وسنعمل من خلال هذه المقالة الإجابة عن بعض الاشكاليات التي تهم طبيعة الدور الذي يمكن أن يلعبه الخطاب الإعلامي بشكل الخاص والمنظومة الإعلامية بشكل عام في الاعتراف بالتنوع الثقافي وتثمينه، واستنطاق العلاقة القائمة اليوم بين الخطاب الإعلامي والتنوع الثقافي بما يتداخل فيها من رهان محلي وإقليمي ودولي؛ وسنعتمد للإجابة عن هذه التساؤلات المنهج الوصفي التحليلي لسبر أغوار الموضوع وتحليله من مختلف الجوانب.

أولاً: دور وسائل الإعلام في تعزيز التنوع الثقافي
يعتبر الإنسان بطبعه ميالا إلى الكشف عن ذاته واكتشاف العالم من حوله من خلال المعرفة المتعددة والابتكارات التي يتم إنجازها، فالاختلافات القائمة بين المجتمعات الإنسانية في الأنماط والقيم الثقافية السائدة فيها ظواهر ثقافية شاهدة على قدرة الإنسان على الإبداع والابتكار .

لا شك أن هويتنا وطرائق رؤيتنا للواقع مشروطة بمرجعياتنا الثقافية التي تؤثر على نظرتنا لأنفسنا، وكيفية تعاطينا مع الأخرين وتفاعلنا مع العالم؛ ونتيجة لذلك، تؤثر علينا وسائل الإعلام تأثيرًا كبيرًا لا يشمل فقط تفكيرنا وإنما كذلك يمتد إلى تصرفاتنا.

وفي هذا الإطار، يتجلى دور الإعلام من منظور مجتمع الرقميات في تصحيح المسار أو النظرة لإيجابيات التنوع الثقافي والتقريب بين الثقافات المتعددة، والمتمثلة في احترام القيم الدينية والثقافية والاجتماعية والحضارية لدى الأقليات وتوظيف أهم الوسائل الحديثة لنشر أفكار التسامح والتعايش داخل فضاء يتقبل تشكيلة العالم بتكويناته اللامتناهية، بهدف خلق حوار خلاق يحترم كينونة الإنسان ووجوده.

إضافة إلى ذلك، فوسائل الإعلام هي النافذة التي يطل منها الإنسان على العالم ويرى من خلالها ثقافته وحضارته وتقدمه؛ وقد كانت وما تزال هذه الوسائل تشكل العامل الأهم والأبرز في تكوين اتجاهات ومواقف الفرد باعتبارها الطريق إلى المعرفة والأداة الفعالة في تنمية وتطوير الوعي

ويجدر التأكيد في هذا المقام أن التنوع الثقافي، جزء من نظام الكون وسننه التي لا يمكن العيش من دونها والتعدد والاختلاف من مصادر الثراء الثقافي ومن محركات التفاعل الثقافي البناء بين الشعوب، ولابد من محاولة تفهم الآخر وتقبله كما هو من دون أن يعني ذلك تطابق جميع الآراء والاتجاهات أو الموافقة عليها، إذ أن التواصل الإيجابي يتطلب احتفاظ كل ثقافة بخصائصها، وإلا انتفت روح التنوع والحق في الاختلاف

وانطلاقًا من ذلك، فإن استخدام وسائل المعلومات والاتصال يهدف إلى فسح المجال أمام مختلف الثقافات للتعبير عن نفسها بكل حرية، أمر لابد منه لترسيخ أسس التفاهم بين الشعوب والحوار بين الثقافات، وتمتلك وسائل الإعلام القدرة على تيسير هذا الحوار من خلال التصدي للمواقف السائدة والمزاعم، حيث يمكن لوسائل الإعلام أن تتجاوز التصورات النمطية الموروثة وتبدد الجهل الذي يغذي سوء الظن بالأخرين وينمي الحذر منهم، ومن ثم تعزيز روح التسامح والقبول بالاختلاف، بحيث يصبح التنوع فضيلة وفرصة للتفاهم.

وعليه يمكننا القول أن الخطاب الإعلامي، ليس إقناع الآخرين بالتخلي عن انتمائهم وخصوصياتهم الثقافية لتبني ثقافة أخرى أو محاولة تعميم وفرض نمط ثقافي معين، فذلك يعوق كل مشاريع التعاون والسلام بين الثقافات؛ فالحقيقة موزعة على كل البشر وليست حكرًا على أمة واحدة ودين واحد وثقافة واحدة، وهذا من شأنه أن يجعلنا نؤمن بتعدد الرؤى وتعقد العالم وبضرورة تجديد مختلف الثقافات لرؤاها ومرتكزاتها حتى نتمكن من خلق حوار ثري وفعال بين مختلف الثقافات.

وفي هذا السياق، فإن الفيلسوف الفرنسي (روجيه غارودي) يرى أن فكرة حوار الحضارات تحارب التقوقع حول الأنا الضيقة وتركز اهتمامها على الحقيقة الفعلية للأنا، باعتبارها قبل كل شيء علاقة مع الآخر وعلاقة مع الكل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى